تميم البرغوثي : ما أشبه الليلة بالبارحة
حين وقعت القدس في يد الفرنجة عام 1099 قامت ثورة في بغداد بقيادة قاضي دمشق، أبي سعد الهروي، تطالب أمير المؤمنين أحمد المستظهر بالله العباسي باسترداد المدينة، وتجمع روايات المؤرخين أن الخليفة وعد بالجمع والاحتشاد وإقامة مفروض الجهاد لاسترداد البلاد، إلا أنه لم يزد على هذا الوعد، والحق أنه لم يكن باستطاعته أن يفعل شيئاً. فقد كان الخلفاء العباسيون بلا حول ولا قوة لمدة تزيد على 200 عام منذ مقتل أمير المؤمنين جعفر المتوكل عام 861 على يد مماليكه وقادة جيشه. والسلطة الحقيقية كانت في يد سلاطين السلاجقة القادمين من آسيا الوسطى. إلا أن هؤلاء لم يكن لهم سلطان واحد بل أربعة، كلهم إخوة، ويتنافس اثنان منهم على بغداد. فكانت عاصمة الرشيد ودار الخلافة ومناط قلوب الأمة وجامعة شمل المؤمنين، على أبواب الغرق في حرب أهلية بين أخوين لأب واحد، والأخوان هما ركن الدين والدنيا بركياروق، وغياث الدين والدنيا محمد، ابنا جلال الدين والدنيا ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقى، ولم يكن لدى أي منهما وقت ولا رغبة أن يحول رماحه عن صدر أخيه إلى صدور الغزاة.
*********
ولم تكن الحال أفضل في بر الشام، فهو أيضا كان غارقاً في حرب بين أخوين هما ابنا عم بركياروق ومحمد المتقاتلين على بغداد، فدمشق كانت في يد شمس الملوك أبي النصر دُقاق بن تُتُش بن ألب أرسلان، وحلب في يد أخيه فخر الملك رضوان بن تُتُش بن ألب أرسلان. وكانا يتقاتلان على ملك الشام كما كان ابنا عمهما يتقاتلان على ملك العراق. والطريف أن كلاً من هؤلاء السلاطين ذوي الأسماء والألقاب الفخمة المضحكة كان يرى أن هذه الحرب الأهلية خطوة أولى ومرحلة ضرورية لمواجهة الغزاة فيما بعد. وقد أدى الصراع بين الأخوين تُتُش إلى سقوط أنطاكية في يد الفرنجة، حيث لم يظهر دقاق جدية في إنجاد أهلها خوفاً من أن يمر جيشه في أراضي أخيه المعادي له في حلب، كذلك لم يكن أخوه رضوان جاداً في إنجادهم كي لا تفرغ حلب من الجند، ويشتبك هو مع الفرنج في الغرب فيأتيه جيش أخيه من الجنوب.
*********
ثم بعد سقوط أنطاكية سار الفرنجة بلا مقاومة تذكر حتى أخذوا القدس، وهذه أيضاً كانت ضحية لصراع لعين آخر، طائفي هذه المرة بين السلاجقة كلهم في إيران والعراق والشام من ناحية، والفاطميين في مصر من ناحية أخرى، فقد كان السلاجقة أخذوها من الفاطميين، ثم استردها الفاطميون منهم قبيل وصول الفرنجة، وكان الفاطميون على علاقة جيدة بالبيزنطيين، حيث أرادوا أن يضعوا السلاجقة الشاميين بين حجري رحى، فيكون البيزنطيون على تخومهم الشمالية والفاطميون على تخومهم الجنوبية. ولم يعلم الفاطميون أن البيزنطيين، حين استعانوا بالفرنجة الغربيين لم يعودوا محتاجين إلى التحالف مع حكام القاهرة، وأن الأرثوذكس في القسطنطينية والكاثوليك في روما كانوا أعقل من السنة والشيعة في مصر والعراق والشام، فاتحدوا وبقي العرب والعجم والترك متحاربين. ولم يعلم حكام القاهرة كذلك أن الفرنجة الذين أخذوا القدس لن يلبثوا أن يحاولوا غزو مصر مرة تلو الأخرى إلى أن يصل الأمر إلى حرق القاهرة كلها بيتاً بيتاً. وأنهم سيحاولون غزو العراق والحجاز، وأن القدس إذا أُخذت فإن القاهرة ودمشق وحلب، بل ومكة والمدينة، تبقى في خطر مهما أمعن السلاطين في التودد للغزاة، وفي قتال إخوتهم.
وما أشبه الليلة بالبارحة..